الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعالبي المسمى بـ «الجواهر الحسان في تفسير القرآن» ***
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا...} الآية، تمثيلٌ لقريشٍ، و{فَرِيقَانِ}: يريد بهما مَنْ آمنَ بصالِح. وَمَنْ كفَر به. واختصامهُم هُو تنازُعُهم. وقد ذكر تعالى ذلك في سورة الأعراف، ثم إن صالحاً عليه السلام ترفَّق بِقَوْمِهِ وَوَقَفَهم على خطأهم في استعجالهم العذابَ؛ قبل الرحمة. أو المعصيةَ للَّهِ قبلَ الطاعةِ، ثم أجابو بقولهم: {اطيرنا بِكَ} أي: تَشَاءَمْنَا بكَ. و{تِسْعَةُ رَهْطٍ} هُمْ رجالٌ كانوا من أوجُهِ القوْمَ وأعْتَاهُمْ؛ وهم أصحاب قدار، والمدينةُ مُجْتَمَعُ ثمودَ وقَرْيَتِهُم. وقوله تعالى: {تَقَاسَمُواْ}. قال الجمهور: هو فعل أمر، أشَار بعضُهم على بعضٍ بأن يَتحَالَفُوا على هذا الفعل بصالح، وحكَى الطبريُّ أَنه يجوز أن يكونَ تقاسموا فِعْلاً ماضِياً في موضعِ الحالِ، كأنه قال: متقاسِمينَ أو متحالفِين باللّه لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهلَه، وتؤيِّدِه قراءةُ عبد اللّه: «ولا يصلحون تقاسموا» بإسقاطِ «قالوا». قال * ع *: وهذه الألفاظُ الدالةُ على قَسَمِ تجاوب باللام، وإن لم يتقدمْ قَسَمٌ ظاهرٌ، فاللامُ في {لَنُبَيِّتَنَّهُ}: جوابُ القَسَمِ. ورُوِيَ في قصصِ هذهِ الآيةِ أَن هؤلاءِ التسعة؛ لمَّا كانَ فِي صَدْرِ الثلاثة الأيام. بعد عَقْرِ النَّاقَةِ وَقَدَ أخبرَهُمْ صالحٌ بمجيء العذابِ، اتفق هؤلاءِ التسعةُ فَتَحَالَفُوا على أن يأتوا دارَ صالحٍ ليلاً فيقتلوه وأهلَه المُخْتَصِّينَ به، قالوا فإن كان كاذباً في وعيدِهِ أوقعناه به ما يستحقُّ، وإن كانَ صادقاً كنَّا قَدْ عَجَّلْنَاه قبلَنا وشَفَيْنَا بهِ نُفُوسَنَا، فجاءوا واخْتَفَوْا لذلك في غارٍ قريبٍ من داره، فرُوِيَ أنَّه انْحَدَرَتْ عليهِم صَخْرَةٌ شَدَخَتْهُم جميعاً ورُوِيَ أنَّها طَبَّقَتْ عليهمُ الغَارَ فَهَلَكوا فيه حينَ هَلَكَ قَوْمُهُمْ، وكلُّ فَريقٍ لا يَعلم بِما جَرَى على الآخِرَ، وقَدْ كانوا على جحودِ الأمر من قرابةِ صالحٍ، ويعني بالأهل كلَّ مَنْ آمنَ بهِ؛ قاله الحسن. وقوله سبحانه: {وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} قال ابن العربيّ الحاتميّ: المكرُ إرداف النِّهمِ مع المخالفةِ وإبقاءِ الحالِ معَ سُوءِ الأدَب، انتهى من شرحه لألفاظ الصوفية. والتدميرُ: الهلاكُ و{خَاوِيَة} مَعْنَاهُ: قَفْرا، وهذه البيوتُ المشارُ إليهَا هِي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم عَامَ تَبُوكَ: " لاَ تَدْخَلُوا بُيُوتَ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ " الحديثُ في «صحيحِ مُسْلِمٍ» وغيره.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)} وقوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النساء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} تقدمَ قصصُ هؤلاءِ القومِ، و{تُبْصِرُونَ} معناه: بقلوبِكُم. قال أبو حيان: و{شَهْوَةً} مفعولٌ منْ أجله، انتهى. وعن ابن عباس قال: قالَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " لَعَنَ اللّه مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ " رواه أبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ؛ واللفظُ له؛ وابن ماجهْ وابنُ حبان في صحيحه، انتهى من «السلاح».
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)} وقوله تعالى: {قُلِ الحمد لِلَّهِ وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَا يُشْرِكُونَ} الآياتِ، هذا ابتداء تقريرٍ وتنبيهٍ لقريشٍ والعربِ وهو بعدُ يَعُمُّ كلَّ مُكَلَّفٍ من الناس جميعاً، وافتتح ذَلِكَ بالقولِ بحمدِه سبحانَه وتمجيدِه وبالسلام على عباده الذين اصْطَفَاهُمْ للنبوَّة والإيمانِ، فهذا اللفظُ عَام لجمعيهم من ولد آدم، وكأنَّ هذا صدرُ خُطْبَةٍ للتقريرِ المذكورِ، قالتْ فرقة: وفي الآية حذْفُ مضافٍ في موْضِعَيْن التقدير: أتوحيدُ اللّهِ خيرٌ أم عبادةٌ ما تشركونَ ف «ما»، على هذا: موصولةٌ بمعنى: الذي، وقالت فرقة: «ما» مصدريةٌ، وحذفُ المضافِ إنما هو أولاً تَقْديرُه: أتوحيدُ اللّه خير أم شركُكُمْ. * ت *: ومِنْ كلاَم الشيخ العارفِ باللّه أَبى الحسن الشاذليِّ قَال رحمه اللّه: إن أردتَ أَن لا يصدأَ لكَ قلبٌ؛ ولا يلحقك همٌّ؛ ولا كربٌ؛ ولا يبقَى عليكَ ذنبٌ فأكْثِرْ من قولك: «سبحان اللّه وبحمده؛ سبحان اللّه العظيم، لا إله إلا اللّه، اللهم ثبِّتْ عِلْمَها في قلبي، واغفر لي ذنبي، واغفر للمؤمنينَ والمؤمناتِ، وقل الحمد للَّه وسلام على عباده الذين اصطفى» انتهى. وقوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ} وما بعدها من التقريراتِ توبيخٌ لهم وتقريرٌ على ما لا مَنْدُوحَةَ عن الإقرارِ به، و«الحدائق» مُجْتَمع الشجرِ من الأعنابِ والنَّخِيل وغير ذلك، قال قوم: لا يقال حديقةٌ إلا لِمَا عليه جدارٌ قد أحدق له. وقال قوم: يقال ذلك كان جدارٌ أو لم يَكُنْ؛ لأَن البَيَاضَ مُحْدِقٌ بالأشجار، والبهجةُ الجمالُ والنَّضَارَة. وقوله سبحانه: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} أي: ليس ذلك في قدرتِكم، و{يَعْدِلُونَ} يجوز أن يرادَ به: يعدِلُونَ عن طريق الحقِّ، ويجوزُ أَنْ يُرَادَ به يَعْدِلُونَ باللّهِ غيرَه، أي: يجعلون له عَدِيلاً ومَثِيلاً، و{خِلاَلَها} مَعْنَاه: بَيْنها، والرواسي: الجبال، والبحرانِ: الماءُ العذبُ والماءُ الأجاج؛ على ما تقدم، والحاجز: ما جَعَلَ اللّه بيْنَهما مِنْ حَوَاجِز الأرْضِ وموانِعها على رِقَّتِها في بعض المواضع، ولطافتِها؛ لولا قدرة اللّه لغلب المالحُ العذَب.
{أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآَخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)} وقوله سبحانه: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ...} الآية، وعن حبيب بن مسلمة الفهري؛ وكان مجابَ الدعوة، قال: سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «لاَ يَجْتَمِعُ مَلأٌ فَيَدْعُوَ بَعْضُهُمْ وَيُؤَمِّنُ بَعْضُهُمْ إلاَّ أَجَابَهُمْ اللّهُ تعالى»، رواه الحاكم في «المستدرك»، انتهى من «سلاح المؤمن»، وعن أبي هريرةَ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " ادْعُوا اللّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ " رواه الترمذيُّ؛ وهذا لفظه. قال «صاحب السلاح»: ورواه الحاكمُ في «المستدرك» وقال: مستقيمُ الإسناد، انتهى. و{السوء} عامٌّ في كل ضرُّ يَكْشِفُه اللّهُ تعالى عن عبادِه، قال ابن عطاء اللّه: ما طُلِبَ لَك شيءٌ مثلَ الاضْطِرَارِ، ولا أسْرَع بالمواهِب لكَ مثلَ الذِّلةِ والافتقارِ، انتهى. و«الظلماتُ» عام؛ لظلمةِ الليل؛ ولظلمةِ الجهل والضلال، والرزقُ من السماءِ. هو بالمطر؛ ومن الأرض بالنبات؛ هذا هو مشهور ما يحُسُّه البشرُ، وكم للَّهِ بَعْدُ مِنْ لُطْفٍ خَفِي. ثم أمرَ تعالى نبيَّه عليه السلام أن يُوقِفَهُمْ عَلَى أَنَّ الغَيبَ مِما انفَرَدَ اللّه بعلمِه؛ ولذلكَ سُمِّي غَيْباً لغيبِه عن المخلوقين. رُوِيَ: أنَّ هذهِ الآيةَ مِن قوله: {قُل لاَّ يَعْلَمُ} إنما نَزَلَتْ لأَجْلِ سؤالِ الكفّارِ عن السَّاعَةِ الموعودِ بِهَا، فجاءَ بلفظ يَعُمَّ السَّاعَةَ وغيرَها، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون إيان يبعثون. * ص *: {أَيَّانَ} اسم استفهامٍ بمعنى: متى، وهي معمولةً ل {يُبْعَثُونَ}، والجملة في موضع نصب ب {يَشْعُرُونَ}، انتهى. وقرأ جمهور القراء: {بَلِ ادارك} أصله: تَدَارَكَ. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «بل ادرك» على وزن افتعل وهي بمعنى تَفَاعَلَ. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: «بَلْ أَدْرَكَ» وهذه القراءاتُ تحتملُ مَعْنَيَيْن: أحدهما: ادَّرَكَ علمُهم، أي: تَناهى، كما تقول ادَّركَ النباتُ، والمعنى: قد تَنَاهى علمهُم بالآخرة إلى أَن لا يعرفوا لها مقداراً، فيؤمنوا وإنما لهم ظنونٌ كاذبةٌ، أو إلى أن لا يعرفوا لها وقْتاً، والمعنى الثاني: بل ادَّرَكَ بمعنى: يُدْرِك أي أنهم في الآخرة يُدْرِكُ علمُهم وقتَ القيَامَةِ، ويرونَ العذابَ والحقائقَ التي كذَّبوا بها، وأمَّا في الدنيا؛ فلا، وهذا هو تأويل ابن عباس، ونحا إليه الزجاج، فقوله {فِي الأخرة} على هذا التأويل: ظَرْفٌ؛ وعلى التأويل الأول: {فِي} بمعنى الباء. ثم وَصَفَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ بأنهم في شكٍ منها، ثم أردف بصِفَةِ هي أبلغُ من الشَّكِ وهي العَمَى بالجُمْلَةِ عن أمر الآخرة، و{عَمُونَ}: أصله: (عميون) فَعِلُونَ كَحَذِرُون.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)} وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ أَءِذَا كُنَّا ترابا وَءَابَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين}، هذه الآية معنَاها واضحٌ مما تَقَدَّمَ في غيرها. ثم ذكر- تعالى- استعجالَ كفارِ قريشٍ أمْرَ السَّاعَةِ والعذابَ بقولِهم: {متى هذا الوعد} على معنى التَّعْجِيزِ، و{رَدِفَ} مَعْنَاه: قَرُبَ وأزِفَ؛ قاله ابن عباس وغيرُه، ولكنَّها عبارةٌ عَما يجيءُ بعدَ الشيء قريباً منه، والهاءُ في {غَائِبَة} للمبَالَغَةِ، أي مَا مِنْ شَيْءٍ في غايةِ الغَيْبِ والخفاءِ إلاَّ فِي كِتَابٍ عِندَ اللّهِ وفي مكنونِ علمِه، لا إله إلا هو. ثم نبَّه تعالى على أنَّ هذا القرآن يَقُصُّ على بني إسرائيل أكثر الأشياءِ التي كان بينهُم اختلافٌ في صِفَتِها، جاء بها القرآن على وجهها، {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ} كما أنه عمَىً على الكافرين المحتومِ عليهم، ثم سلَّى نبيَّه بقوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} فشبَّهَهُمْ مرةً بالموتى، ومرةً بالصُّمِّ من حيث إنَّ فائدةَ القولِ لهؤلاءِ مَعْدُومَةٌ. وقرأ حمزة: «وَمَا أَنتَ تَهْدِي العمي» بفعلٍ مستقبل، ومعنى قوله تعالى {وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم}، أي: إذا انْتَجَزَ وعدُ عذابِهمُ الذي تَضَمَّنَه القولُ الأزلي من اللّه في ذلك، وهذا بمنزلة قوله تعالى: {حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب} [الزمر: 71]. فمعنى الآية وإذا أراد اللّهُ أن يُنْفذَ في الكافرينَ سَابقَ عِلمِهِ لَهُم من العذابِ أخْرَجَ لهم دابَّةً من الأرض، ورُوِيَ أَن ذلك حين ينقطعُ الخيرُ، ولا يؤمَر بمعروف، ولا يُنْهى عن منكر، ولا يِبْقَى مَنيبٌ ولا تائبٌ، و{وَقَعَ} عبارةٌ عن الثبوت واللُّزُوم، وفي الحديث أن الدابةَ وطلوعَ الشمسِ من المغْرِب مِنْ أولِ الأشراط، وهذه الدَّابَّةُ رُوِيَ أنَّها تَخْرُجُ من الصَّفَا بمكَّةَ؛ قاله ابن عمر وغيره، وقيل غيرُ هذا. وقرأ الجمهور: {تُكَلِّمُهُمْ} من الكلام. وقرأ ابن عباس وغيرُه، {تُكَلّمُهُمْ} بفَتْحِ التاءِ وتخفيفِ اللام، من الكَلْمِ وهو الجُرْحُ، وسئل ابن عباس عن هذه الآية «تكلمهم أو تكلمهم»؟ فقال: كل ذلك، واللّهِ تفعلُ: تُكَلِّمُهُمْ وَتَكْلُمُهُمْ، وروي أنها تَمُرُّ على الناسِ فَتَسِمُ الكافرَ فِي جبهتِه وتَزْبُرُهُ وتَشْتُمُه وربما خَطَمَتْه، وَتَمْسَحُ على وجهِ المؤمنِ فتبيضه، ويعرفُ بعدَ ذلكَ الإيمانُ والكفرُ مِن أثرها، وفي الحديث: " تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ وَعَصَا مُوسَى، فَتَجْلُو وُجُوهَ المؤمِنِينَ بالعَصَا؛ وتَخْتِمُ أَنْفَ الكَافِرِ بِالخَاتِمِ، حَتَّى أنَّ النَّاسَ لَيَجْتَمِعُونَ، فَيَقُولُ هَذَا: يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذا: يَا كَافِرُ " رواه البَزَّار، انتهى من «الكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ». وقرأ الجمهور: «إنَّ النَّاسَ» بكسر «إن». وقرأ حمزةُ والكسائيّ وعاصمٌ: «أنَّ» بفتحها. وفي قراءة عبد اللّه: «تُكَلِّمُهُمْ بَأَنَّ»، وعلى هذه القراءة؛ فيكونُ قوله: «أَنَّ النَّاسَ» إلى آخرها مِنْ كلامِ الدابَّةِ، وروي ذلك عن ابن عَبَّاس. ويحتملُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلاَمِ اللّهِ تعالى.
{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)} وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً}: هو تذكيرٌ بيومِ القيامةِ، والفوجُ: الجماعة الكثيرة، و{يُوزَعُونَ} معناه: يُكَفُّونَ في السَّوق، أي يَحْبِسُ أولُهُم عَلى آخرهم؛ قاله قتادة، ومنه وَازَع الجيشَ، ثم أخبر تعالى عن توقيفِه الكفرةَ يومَ القيامةِ وسؤالِهم على جهة التوبيخ: {أَكَذَّبْتُم...} الآية، ثم قال: {أمَّاذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} على معنى استيفاء الحُجَجِ، أي: إن كان لكم عملٌ أو حُجَّةٌ فهاتوها. ثم أخبر عن وقوع القول عليهم، أي: نفوذُ العذابِ وحَتْمُ القَضَاءِ وأنهم لا ينطقونَ بحجَّةٍ، وهذا في موطن من مواطِنِ القيامةِ. ولما تكلَّم المحاسِبيُّ على أهوال القيامة، قال: واذكرِ الصِّراطَ بِدقَّتهِ وهو له؛ وزلَّتِه وعَظِيم خطره؛ وجهنم تخفق بأمواجها من تحته، فيا له مِنْ مَنظرٍ؛ ما أفْظَعَهُ وأهْوَلَهُ، فتَوهَّمْ ذلِكَ بقلبٍ فارغٍ، وعقلٍ جامعٍ، فإن أهوالَ يومِ القيامةِ إنما خَفَّتْ علَى الذِينَ تَوَهَّمُوهَا في الدنيا بعقولهم، فتحملوا في الدنيَا الهُمُومَ خَوْفاً مِن مَقامِ رَبِّهِمْ، فَخَفَّفَها مَوْلاَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْهم، انتهى من «كتاب التوهم». {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} وهو القَرْنُ في قول جمهور الأمة، وصاحب الصور هو إسرافيل عليه السلام، وهذه النفخةُ المذكورة هنا هي نفخة الفَزَع، ورَوى أبو هريرةَ أنها ثلاثُ نفخات: نفخةُ الفَزَعِ، وهو فزع حياةِ الدُّنيَا وليْسَ بالفَزَع الأكْبَرِ، ونفخةُ الصَّعْقِ، ونفخةُ القيام من القبور. وقالت فرقة: إنما هما نفختان: كأنهم جَعَلُوا الفَزَعَ والصَّعْقَ في نفخةٍ وَاحِدَةٍ مستدلين بقوله تعالى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى...} الآية [الزمر: 68]. قالوا: وأخرى لا يقال إلا في الثانية. قال * ع *: والأول أصحُّ، وأخرى يقال في الثالثةِ، ومنه قوله تعالى: {ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 20]. وقوله تعالى: {إِلاَّ مَن شَاءَ الله} استثناءٌ فيمن قَضَى اللّه سبحانه مِنْ ملائكتِه، وأنبيائه، وشهداءِ عبيدِه أن لا ينالهم فزعُ النَّفْخِ في الصورِ، حَسَبَ ما ورد في ذلك من الآثار. قال * ع *: وإذا كان الفزعُ الأَكْبَرُ لاَ ينالهُم فَهُمْ حَرِيُّونَ أن لا ينالَهم هَذا. وقرأ حمزة: «وَكُلُّ أَتَوْهُ» على صيغة الفعل الماضي، والدَّاخِرُ: المُتَذَلِّلُ الخاضِعُ، قال ابن عباس وابن زيد: الداخرُ: الصاغرُ، وقد تظاهرَتِ الرواياتُ بأنَّ الاستثناءَ فِي هذِه الآيةِ إنما أريد به الشهداءُ: لأنهم أحياءٌ عند ربهم يُرْزَقُونَ، وهم أهلٌ للفزعِ؛ لأنَّهُمْ بشر لكن فُضِّلُوا بالأمن في ذلك اليوم. * ت *: واختار الحليميُّ هذا القولَ قال: وهو مروي عن ابن عباس: إن المستَثْنَى هم الشهداء. وضعَّفَ ما عداه من الأقوال، قال القرطبي، في تذكرته: وَقَدْ وَرَدَ في حديث أبي هريرة؛ بِأَنَّهُمُ الشُّهَدَاءُ، وهو حديثٌ صحيح، انتهى.
{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آَمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)} وقوله تعالى: {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً...} الآية، هذا وصفُ حالِ الأشياءِ يومَ القيامةِ عَقِبَ النَّفْخِ في الصُّورِ، والرؤية: هي بالعَيْن، قال ابن عباس: جامدةً: قائمةً، والحَسَنَةُ الإيمانُ، وقال ابن عباس وغيره: هي «لا إله إلا اللّه» ورُوِيَ عَنْ علي بن الحسين أنه قال: كُنْتُ في بعض خَلَواتِي فَرفَعْتُ صَوْتي: ب «لا إله إلا اللّه» فسمعتُ قائلاً يقول: إنها الكلمةُ التي قال اللّه فيها: «من جاء بالحسنة فله خير منها». وقال ابن زيد: يُعْطَى بالحَسَنَةِ الواحدةِ عَشْراً. قال * ع *: والسيئةُ التي في هذه الآية هي الكُفْر والمَعَاصِي. فيمن حتَّم اللّه عليه من أهل المشيئة بدخول النار.
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)} وقوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ} المعنى قل يا محمد؛ لقومك: إنما أمرتُ أن أعبدَ ربَّ هذه البلدة، يعني: مكةَ، {وَأَنْ أَتْلُواْ القرءان} معناه تَابعْ فِي قراءتِك، أي: بَيْنَ آياتِه واسْرُدْ. قال * ص *: {وَأَنْ أَتْلُوَاْ} معطوفٌ على «أَنْ أَكُونَ». وقرأ عبد اللّه: «وَأَنِ اتل» بغير واو وقوله: {ومَنْ ضَلّ} جوابُه محذوفٌ يدلُّ عليه ما قبلَه، أي: فَوَبَالُ ضلالهِ عَلَيْهِ، أو يكونَ الجوابُ: فَقل، ويُقَدَّرُ ضميرٌ عائدٌ من الجوابِ على الشرط؛ لأنه اسمٌ غَيرُ ظَرْفٍ، أي: من المنذرين له، انتهى. وتلاوة القرآن سببُ الاهتداءِ إلى كل خير. وقوله تعالى: {سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ} توعُّدٌ بعذابِ الدُّنيَا كَبَدْرِ ونَحوه، وبعذاب الآخرة. {وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} فيه وعيدٌ.
{طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)} قوله تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين * نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى...} الآية، معنى {نَتْلُواْ}: نَقُصُّ وخَصَّ تعالى بقوله {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} من حيث إنهم هم المنْتَفِعُونَ بذلكَ دونَ غيرهم، و{عَلاَ فِي الأرض} أي: عُلُوَّ طُغْيَانٍ وتَغَلَّبَ، و{فِي الأرض} يريد أرض مصر، والشيعُ: الفرقُ، والطائفةُ المستضعفةُ: هم بنو إسرائيل، {يُذَبِّحُ أَبْنِاءَهُمْ} خوفَ خرابِ مُلْكِه على ما أخبرته كَهَنَتُه، أو لأجل رؤيا رآها؛ قاله السدي. وطمع بجهله أن يَرُدَّ القدرَ، وأين هذا المنزعُ من قول النبي صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: " إنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْهُ، فَلاَ خَيْرَ لَكَ فِي قَتْلِهِ " يعني: ابنَ صَيَّادٍ؛ إذ خافَ عمرُ أَن يكونَ هو الدَّجَّالَ، وباقي الآيةِ بيِّن؛ وتقدَّم قصصُه. والأئمة: ولاة الأمور؛ قاله قتادة. {وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين} يريدُ: أرضَ مصرَ والشامِ، وقرأ حمزة: «وَيَرَى فِرْعَوْنُ» باليَاء وفتح الراء والمعنى: ويقعُ فرعونُ وقومُه فيما خافُوه وحذِرُوه من جهة بني إسرائيل، وظهورهم، وهامان: هو وزيرُ فرعونَ وأكبَرُ رجالِه وهذا الوَحْي إلى أم موسى، قيل: وَحْيُ إلهامٍ، وقيلَ: بمَلَكٍ. وقيل: في مَنَامٍ وجملة الأمرِ أنها عَلِمَتْ أنَّ هذا الذي وقع في نفسِها هو من عند اللّه، قال السدي وغيره: أُمِرَتْ أن تُرْضِعَهُ عَقِبَ الوِلاَدَةِ، وَتَصْنَعَ بهِ مَا فِي الآية؛ لأَن الخوفَ كانَ عَقِبَ كلِّ وِلاَدَة، واليمُّ: معظم الماء، والمرادُ: نِيلُ مِصر، واسم أم موسى يوحانذ ورُوِيَ في قَصَصِ هذهِ الآيةِ: أن أمَّ مُوسَى لَفَّتْهُ في ثِيابهِ وَجَعَلَتْ له تابوتاً صَغِيراً، وسَدَّتْه عليه بقُفْلٍ، وعَلَّقَتْ مِفْتَاحَه عَلَيْه، وأسلمَتْهُ ثقةً باللّه وانتظاراً لوعدِه سبحانه، فلما غابَ عنها عاودَها بثُّها وأَسِفَتْ عليه، وأَقْنَطَهَا الشيطانُ فاهْتَمَّتْ به وكَادَتْ تَفْتَضِحُ، وجعلتِ الأُخْتُ تَقُصُّهُ، أي: تَطْلُبُ أثَرَه وتَقَدَّم باقي القصةِ في «طه» وغيرِها، والالتقاط: اللقاء عن غير قصد، وآل فِرْعَوْنَ: أهله وجملتُه، واللامُ في {لِيَكُونَ}: لام العَاقِبَة. وقال * ص *: {لِيَكُونَ}: اللامُ للتعليلِ المجازيِّ، ولمَّا كانَ مآله إلى ذلك، عبَّر عَنْه بلام العاقبة، وبلام الصَّيْرَوَرَةِ، انتهى. وقرأ حمزة، والكسائي «وحْزُناً»- بضمِّ الحاءِ وسكونِ الزاي-، والخاطئ: متعمدُ الخطإ، والمخطئ الذي لا يتعمده. وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: بأنه هو الذي يَفْسَدُ ملكُ فرعونَ على يده؛ قاله قتادة وغيره.
{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)} {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً} أي: فارِغاً من كلِّ شيء إلا من ذكر موسَى. قاله ابن عباس. قال مالك: هو ذَهَابُ العَقْلِ، وقالت فرقة: {فَارِغاً} من الصبر. وقوله تعالى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي: أَمرِ ابْنِهَا، ورُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: كادتْ أُمُّ مُوسَى أن تَقُول: «وابناه وَتَخْرُجَ سَائِحَةً عَلَى وَجْهِهَا». والرَّبْطُ على القلبِ: تأنيسُه وتقويَتُه، {وَلِتَكُونَ مِنَ المؤمنين} أي: من المُصَدِّقين بوعدِ اللّهِ سبحانه وما أوحي إليها به، و{عَن جُنُبٍ} أي: ناحيةٍ، فمعنى {عَن جُنُبٍ}: عن بُعْد لَمْ تَدنُ مِنْهُ فَيُشْعَرَ لها. وقوله: {وَهُم لاَ يَشْعُرُونَ} معناه: أنها أختُه، ووعدُ اللّه المسارُ إليه هو الذي أوحاه إليها أولاً، إمَّا بمَلَكٍ أو بمَنَامَةٍ، حسْبَمَا تَقَدَّمَ، والقَوْلُ بالإلْهَامِ ضَعِيفٌ أن يقالَ فيه وعدٌ. وقوله: {أَكْثَرَهُمْ} يريد به القِبْطَ، والأَشُدُّ: شِدةُ البَدَن واستحكام أمره وقوتِه، و{استوى} معناه: تَكَامَلَ عَقْلُه، وذلك عند الجمهور مع الأربعين. والحكمُ: الحِكْمَةُ، والعلمُ: المَعرِفَةُ بشرعِ إبراهيمَ عليه السلام.
{وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} وقوله تعالى: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا}. قال السدي: كان موسى في وقتِ هذه القصةِ على رَسْمِ التعلُّقِ بفرْعَونَ، وكان يَرْكَبُ مَرَاكِبَه حتى إنه كان يُدْعَى مُوسَى بنَ فِرْعَوْنَ، فركب فرعونُ يوماً وسارَ إلى مدينةٍ من مدائنِ مِصْرَ، فركبَ مُوسَى بَعْدَه ولَحِق بتلكَ المدينَةِ في وقتِ القائِلة، وهو حينُ الغَفْلَة؛ قاله ابن عباس، وقال أيضاً: هو بين العِشَاء والعَتَمَة، وقيل غيرُ هذا. وقوله تعالى: {هذا مِن شِيعَتِهِ} أي من بني إسرائيل، و{عَدُوِّهِ} هم القِبْطُ، و«الوَكْزُ»: الضَّرْبُ باليدِ مجموعةً، وقرأ ابن مسعود: «فَلَكَزَهْ» والمعنى: واحد؛ إلا أن اللَّكْزَ في اللَّحْيِ، والوَكْزَ علَى القَلْبِ، و{قضى عليه} معناه: قَتَلَه مُجْهِزاً، ولم يُرِدْ عَلَيْهِ السلامُ قَتَلَ القِبْطِيِّ، لَكِنْ وَافَقَتْ وَكْزَتُهُ الأَجَلَ؛ فَنَدِمَ، ورأَى أنَّ ذلك من نَزْعِ الشيطانِ. في يده، إن نَدَامَةَ موسى عليه السلام حَمَلَتْهُ على الخُضُوعِ لربِّه والاسْتِغْفَارِ من ذنبه، فغفر اللّه له، ذلك، ومع ذلك لَم يَزَلْ عليه السلام يُعيد ذلك على نفسه مع علمه أَنه قَد غُفِر له، حتى إنَّهُ في القِيَامِةِ يَقُولُ: «وَقَتَلْتُ نَفْساً لَمْ أُومَرْ بقَتْلِهَا»؛ حَسْبَمَا صَحَّ فِي حدِيثِ الشفاعة، ثم قال موسى عليه السلام معاهداً لربه: رَبِّ بنعمتِكَ عليّ وبسبب إحسانِك وغُفْرانِك، فأنا مُلْتَزِمٌ أَلاَّ أكون مُعِيناً للمجرمين؛ هذا أحسن ما تأول. وقال الطبري: إنه قَسَمٌ؛ أقسم بنعمة اللّهِ عندَه. قال * ع *: واحتج أهلُ الفضلِ والعلمِ بهذهِ الآيةِ في مَنْعِ خِدْمَة أهل الجَوْرِ ومَعُونَتِهم في شيء من أمورهم، ورأوا أنها تَتَنَاوَلُ ذلكَ؛ نص عليه عطاء بن أبي رباح وغيره. قال ابن عباس: ثم إنَّ مُوسَى عليه السلام مرَّ وَهُوَ بحالةِ التَّرَقُّبِ؛ وإذا ذلك الإسرائيلي الذي قَاتَلَ القبطيَّ بالأَمسِ يُقاتِلُ آخرَ مِن القِبْطِ، وكان قَتَلُ القبطيّ قد خفي على الناس واكْتَتَم، فلما رأَى الإسرائيلي موسى، استصرخه، بمعنى صاحَ بهِ مستغيثاً فلما رأى موسى عليه السلام قِتَالهُ لآخرَ؛ أعظم ذلكَ وقال له مُعَاتباً ومُؤَنِّباً: {إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ} وكانت إرادة موسى عليه السلام مع ذلك، أن ينصرَ الإسرائيلي، فلما دنا منهما، وحبس الإسرائيلي وفَزَعَ منه، وظن أنه ربما ضَرَبَه، وفزع من قوتِهِ التي رأى بالأمس، فناداه بالفضيحةِ وشهَّر أمرَ المقتُولِ، ولما اشْتَهِرَ أنَّ مُوسَى قَتَل القَتِيلَ، وكان قول الإسرائيلي يَغْلِبُ على النفُوسِ تصديقُه على موسَى، مَعَ ما كانَ لِمُوسَى مِنَ المقدِّمَاتِ أتى رأْيُ فِرْعَونَ ومَلاَئِه علَى قَتْلِ مُوسَى، وغَلَبَ على نفسِ فرعون أنه المشارُ إليه بفَسَادِ المَمْلَكَةِ، فأنْفَد فيهِ مَنْ يطلُبه ويأْتي بهِ للقَتْلِ، وألْهَمَ اللّهُ رَجُلاً؛ يقالُ إنه مؤمِنٌ مِن آل فرعَونَ أو غيره، فجاء إلى موسَى وبَلَّغَهُ قبلَهُم و{يَسْعَى} معناه: يُسْرِعُ في مَشْيه؛ قاله الزجاج وغيره، وهو دونَ الجَرْيِ، فقال: {ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ. ..} الآية. * ت * قال الهروي: قوله تعالى: {يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي: يؤامُرُ بعضُهُم بعضاً في قَتلِك، وقال الأزهري: الباءُ في قوله: {يَأتَمِرُونَ بِك} بمعنى: «في» يقال: ائتَمَرَ القومُ إذا شَاوَرَ بَعْضُهمْ بَعْضاً، انتهى. وعن أبي مجلز واسمه لاحق بن حميد قال: من خاف من أمير ظُلُماً فقال: رضيت باللّه، رَبّاً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً وبالقرآن حَكَماً وإماماً نجَّاه اللّه منه؛ رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه»، انتهى من «السلاح». و{تِلْقَاء} معناه نَاحِيَةَ مدين، وبينَ مِصرَ ومَدْيَنَ مسيرةَ ثَمانِيَةَ أيامٍ، وكانَ مُلْكُ مدين لغير فرعونَ، ولما خَرَجَ عليه السلام فارّاً بنفسهِ منفرداً حافياً؛ لا شيءَ معه ولا زادَ وغيرَ عارفٍ بالطريقِ؛ أسْنَدَ أمرَه إلى اللّهِ تعالى وقال: {عسى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السبيل} ومشى عليه السلامُ حتى وَرَدَ ماءَ مدينَ، وَوُرُودُهُ المَاءَ، معناه: بلُوغُه، ومدينُ: لا ينْصَرِفُ إذ هو بلدٍ معروفٌ، والأمَّة: الجمعُ الكثيرُ، و{يَسْقُونَ} معناه: ماشيتَهم، و{مِن دُونِهِمْ} معناه: ناحيةً إلى الجهةِ الَّتي جَاء مِنها، فَوَصَل إلى المرْأَتَيْنِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلى الأُمَّةِ، و{تَذُودَانِ} معناه: تَمْنعَانِ، وتَحْبِسَانِ غَنَمَهُمَا عَنِ الماءِ؛ خوفاً من السُّقَاةِ الأقوياء، و{أَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ}، أي: لا يستطيعُ؛ لِضَعْفِهِ أن يُبَاشِرَ أمْرَ غَنَمِه. وقوله تعالى: {فسقى لَهُمَا}. قالت فرقة: كانت آبارهم مغطاةً بحجارةٍ كبارٍ، فَعَمَدَ إلى بِئْرٍ، وكان حَجَرُهَا لاَ يرفعُه إلاَّ جَماعَة، فَرَفَعَهُ وسقى للمرأتين. فَعَنْ رَفْعِ الصَّخْرَةِ وصِفتْه إحداهُما بالقوة، وقيل وصفَتْه بالقوة؛ لأنه زَحَمَ النَّاسَ وغَلَبَهُمْ عَلى المَاءِ حتى سَقَى لهما. وقرأ الجمهور «يُصْدِر الرِّعَاء» على حَذْفِ المفعولِ تقديرُه: مواشِيَهم، وتَولّى موسى إلى الظلِّ وتعرَّضَ لسؤَال ما يَظْعَمُه بقوله: {رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ولم يُصَرِّحْ بسؤالٍ؛ هكَذا، رَوَى جَمِيعُ المفسرينَ أنَّه طلبَ في هذا الكلامَ ما يأكلُه، قال ابن عباس: وكان قَدْ بَلَغَ به عليه السلام الجوعُ إلى أن اخْضَرَّ لونُه من أكل البَقْل، وَرُئِيَتْ خُضْرة البقْلِ في بَطْنِهِ، وإنه لأَكْرَمُ الخلقِ يومئِذٍ على اللّه، وفي هذا مُعْتَبَرٌ وحاكمٌ بهَوَانِ الدُّنْيا على اللّه تعالى، وعن معاذ بن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَكَلَ طَعَاماً، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ لَبِسَ ثَوْباً، فَقَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا الثَّوْبَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ " رواه أبو داود؛ واللفظُ له، والترمذيُّ وابن ماجه والحاكم في «المستدرك»، وقال: صحيح على شرط البخاريِّ، وقالَ الترمذيُّ: حسنٌ غريبٌ، انتهى من «السِّلاح».
{فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)} وقوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحياء...} الآية: في هذا الموضِع اختصارٌ يدلُّ عليه الظاهرُ، قدَّرَهُ ابنُ إسحاقٍ: فذهبتا إلى أبيهما فأخبرتاه بما كان من الرجل، فأمر إحدى ابنَتَيْه أنْ تدعوَه له، فجاءته، على ما في الآية. وقوله: {عَلَى استحياء} أي: خَفِرَةٍ، قد سَتَرَتْ وَجْهَهَا بِكُمِّ دِرْعِها؛ قاله عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه. ورَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هريرةَ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " الْحَيَاءُ مِنَ الإيمَانُ فِي الجَنَّةِ، والبَذَاءُ مِنَ الجَفَاءِ؛ والجَفَاءُ فِي النَّارِ " قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ انتهى. والجمهورُ أن الداعِيَ لموسَى عليه السلامُ هو شُعَيْبُ عليه السلام وأن المرأتينْ ابنتَاه. ف {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ...} الآية، فَقَام يَتْبعُهَا فَهَبَّتْ رِيحٌ ضَمَّتْ قَمِيصَها إلى بَدَنِهَا فَتَحَرَّجَ مُوسَى عليه السلام من النظر إليها فقال امشي خلفي وأرشديني إلى الطرق فَفَهِمَتْ عَنْهُ؛ فذلك سَبَبُ وَصْفِهَا له بِالأَمَانَةِ؛ قاله ابن عباس. {فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص} فآنسَه بقَولهِ: {لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين} فلما فَرَغ كلامُهُمَا قالت إحدى الابنتيْنِ {ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} فقال لها أبوها: ومن أين عَرَفْتِ هذا منه؟ قالت: أَمّا قوتُه فَفِي رفعِ الصَّخْرَةِ، وأمّا أمَانَتُهُ فَفِي تَحَرُّجِه عَنِ النَّظَرِ إلَيَّ؛ قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم، فقال له الأَبُ عند ذلك: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ...} الآية، قال ابن العربي: فِي «أحْكَامِهِ» قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} يدلُّ على أنه عَرْضٌ لاَ عَقْدٌ؛ لأنه لو كان عَقْداً، لعَيَّن المعقودَ عَلَيْهَا؛ لأن العلماءَ وإنْ اخْتَلَفُوا في جوازِ البيعِ، إذَ قَال له: بعتُكَ أَحَدَ عَبْدَيَّ هذينِ بثَمَنِ كذا، فإنهم اتَّفَقُوا على أن ذلكَ لاَ يجُوزُ في النكاحَ؛ لأنه خيارٌ وشَيْءٌ مِن الخيارِ لاَ يُلْحَقَ بالنِّكَاحِ. ورُوِي أنه قال شعيبٌ: أَيَّتُهما تُرِيد؟ قال: الصغرى، انتهى. «وتَأجَر» معناه: تُثِيبُ وجَعَلَ شعيبُ الثمانيةَ الأعوامَ شَرْطاً وَوَكَلَ العَامَيْنِ إلى المُرُوءَةِ، ولما فَرَغَ كلامُ شُعَيْبٍ قَرَّره موسَى؛ وكَرَّرَ معناه على جهة التوثقِ في أن الشَّرط إنما وقع في ثمانِ حججٍ، و{أيما} استفهامٌ نُصِبَ ب {قَضَيْتَ} و«ما» صلةٌ للتَّأكِيد و«لا عدوان» لاتِبَاعَةَ عَلَيَّ، و«الوكيل»: الشَّاهدُ القائمُ بالأمر.
{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآَمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)} وقوله تعالى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} قال ابن عباس: قضى أكملهمَا عَشْرَ سنينَ؛ وأسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: {إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أتاها نُودِىَ...}، تَقَدَّمَ قصصُها، فانظرْه في محالِّه، قال البخاريُّ: والجَذْوَةُ قطعةٌ غلِيظةٌ مِنَ الخَشَبِ فيها لَهَبٌ، انتهى. قال العِراقيُّ و«آنس» معناه: أبصر، انتهى. وقوله: {مِنَ الشجرة} يقتضي: أن موسى عليه السلام سَمِعَ ما سَمِعَ من جهة الشجَرةِ، وسمع وأدرك غَيْرُ مُكَيَّفٍ ولا محَدَّدٍ. قال السهيليُّ: قيل إن هذه الشجرةَ عَوْسَجَة، وقِيل: عُلَّيْقَة، والعَوْسَجُ إذا عَظُمَ قِيلَ له: الغَرْقَدُ، انتهى. {ولَمْ يُعَقِّبْ} معناه: لم يرجع على عَقِبهِ من تَوْلِيَتِه. وقوله تعالى: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} ذهبَ مجاهد وابن زيدٍ إلى: أنَّ ذَلكَ حقيقةٌ أَمَرَهُ بِضَمِّ عَضُدِهِ وَذِرَاعِه؛ وهو الجَنَاحُ إلى جَنْبِه؛ لِيَخِفَّ بذلكَ فَزَعُه؛ ورهبُه، ومن شأن الإنسانِ إذا فَعَلَ ذلك في أوقات فزعه؛ أن يقوى قَلْبُهُ، وذهبت فرقةٌ إلى أن ذلك على المجازِ وأنه أُمِرَ بالعَزْمِ على ما أُمِرَ به، كما تقُولُ العربُ: اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ؛ وارْبِطْ جَأْشَكَ، أي: شَمِّرْ في أمْرِكَ وَدَعْ عَنْكَ الرَّهْبَ. وقوله تعالى: {فذانك برهانان مِن رَّبِّكَ} قال مجاهد والسدي: هي إشَارة إلى العَصَا واليدِ. وقرأ الجمهور: «رِدْءاً» بالهَمْزِ. وقَرأ نافعٌ وَحْدَهُ «رِداً» بتنوين الدال دونَ هَمْزِ وذلك على التخفيف من رِدْءٍ، والرِّدْءُ: الوَزير المعين، وشَدُّ العَضُدِ: استعارةُ في المَعونةِ، والسلطان: الحجةُ. وقوله: {بئاياتنا}: متعلقٌ بقوله {الغالبون} أي: تغلبون بآياتنا؛ وهي المعجزاتُ، ثم إن فرعون استمر في طريق مخرقته على قومِه، وأمر هامان بأنْ يَطْبُخَ له الآجُرَّ وأن يَبْنيَ له صَرْحاً أي سَطْحاً في أعلى الهواء، مُوْهِماً لِجَهَلَةِ قَوْمهِ أنْ يَطَّلِعَ بزَعْمِهِ في السَّمَاء، ثم قال: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين} يعني: موسى في أنه أرسله مُرْسِلٌ و{نبذناهم} معناه: طرحناهم، واليَمُّ: بحرُ القُلْزُم في قول أكثر الناس؛ وهو الأشهرُ.
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)} وقوله تعالى: {وجعلناهم أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار...} الآية، عبارةٌ عَنْ حالهِم وأفعالهِم، وخَاتِمَتِهم، أي: هم بذلك كالداعين إلى النار؛ وهم فيه أَئِمَّةٌ مِنْ حَيْثُ اشْتُهِرُوا، وبَقِي حديثُهم، فهم قدوةٌ لُكُلِّ كافرٍ وعَاتٍ إلى يَوْمِ القيامة، و{المقبوحين} الذينَ يُقَبِّحُ كُلُّ أَمرِهِم، قَولاً لهم وفِعْلاً بهم، قال ابن عباس: هم الذين قُبِحُوا بِسَوَادِ الوُجُوهِ وزُرْقَةَ العيون، و{يَوْمَ} طرفٌ مقَدَّمٌ {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب} يعني: التوراةَ والقصدُ بهذا الإخبار التمثيلُ لقريشٍ؛ بما تقدم في غيرها مِنَ الأُمَمِ و«بصائر» نَصْبٌ على الحالِ، أي: طرائِقَ هاديةً.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)} وقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي...} الآية، أي: ما كنتَ يا محمدُ حاضراً لِهذهِ الغُيوبِ الَّتي تُخْبِرُهمْ بِهَا، وَلَكِنَّهَا صَارَتْ إلَيْكَ بِوَحْيِنَا، أي: فكان الواجِبُ أن يسارعوا إلى الإيمان بك. قال السهيلي: وجانبُ الغَرْبي هُوَ جانبُ الطُّورِ الأيمنِ، فحينَ ذَكَرَ سبحانَه نداءَه لِموسى قال: {وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن} [مريم: 52] وحينَ نَفَى عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون بذلك الجانبِ قال: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي} والغربيُّ: هو الأيمنُ، وبين اللفظينِ في ذكر المَقَامَيْنِ ما لا يخفى في حُسْنِ العبارةِ وبديعِ الفَصَاحَةِ والبلاغةَ؛ فإن محمداً عليه السلام لا يقالُ له: ما كنت بالجانب الأيمنِ؛ فإنَّه لَمْ يَزَلْ بالجَانِبِ الأيْمَنِ مُذْ كانَ فِي ظَهْرِ آدم عليه السلامُ، انتهى. وقوله سبحانه: {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر} قال الثعلبيُّ: أي: فنسوا عهد اللّه، انتهى. و{قَضَيْنَا} معناه: أنفذنا، و{الأمر} يعني: التَّوْرَاة. وقالت فرقة: يعني به: ما أعلمَه مِن أمْرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. قال * ع *: وهذا تأْوِيلٌ حَسَنٌ يَلْتَئِمُ معه ما بَعْدَه من قوله {وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً}. * ت *: قال أبو بكر بن العربيِّ: قوله تعالى: {إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر} معناه: أعلمناه، وهو أحدُ ما يَرِد تَحْتَ لفظِ القَضَاءِ مراداً، انتهى من كتاب «تفسير الأفعالَ الواقعة في القرآن». و«الثاوي»: المقيم.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)} وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور} يريدُ وقتَ إنزالِ التوراةِ إلى مُوسَى عليه السلام. وقوله: {إِذْ نَادَيْنَا} رُوِيَ عَنْ أَبِي هريرةَ: أنّه نُودِيَ يَومَئِذٍ مِنَ السَّمَاءِ: «يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، استجبتُ لَكُمْ قَبْلَ أَن تَدْعُونِي، وغفرتُ لكم قبل أن تسألوني» فحينئذٍ قال موسى عليه السلام: اللهمَّ، اجْعَلْنِي من أمَّةِ محمدٍ، فالمعنى: إذ نادينا بأمرك وأخبرنا بنُبوَّتِك. وقال الطبريُّ: معنى قوله: {إِذْ نَادَيْنَا}: بأن {سَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكواة} الآية [الأعراف: 156]. وقوله سبحانه: {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ...} الآية، المصيبةُ: عذابٌ في الدُّنْيا على كفرهِم، وجوابُ {لَوْلاَ} محذوفٌ يقْتَضِيهِ الكلامُ؛ تَقْدِيرُهُ: لعَاجَلْنَاهُمْ بما يَسْتَحِقُّونَه. وقال الزجاجُ: تقديره: لَمَا أَرْسَلْنَا الرُّسُلَ.
{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)} وقوله سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق} يريد القرآن ومحمداً عليه السلام، والمقالةُ التي قَالَتْها قريشٌ: {لَوْلاَ أُوتِي مِثْلَ مَا أُوتِيَ موسى} كانَتْ من تعليمِ اليهود لهم؛ قالوا لهم: لِمَ لا يأتي بآية باهرةٍ كالعصَا واليدِ، وغير ذلك، فعكسَ اللّه عليهم قَوْلَهُم، وَوَقَفَهُمْ على أَنهم قد وقَع منهم في تلك الآيات مَا وَقَع من هؤلاء في هذه، فالضميرُ في قوله {يَكْفُرُواْ} لليهود، وقرأ الجمهور: «ساحران» والمراد: موسى وهارون. قال * ع *: ويحتمل أن يريدَ ب {مَا أُوتِيَ موسى} مِنْ أَمْرِ محمدٍ والإخبارِ به الذي هو في التوراة. وقوله: {وَقَالُواْ إِنَا بِكُلٍّ كافرون} يُؤَيِّدُ هذا التأويلَ، وقرأ حمزةُ والكسائي وعاصم: «سِحْران» والمرادُ بهما: التَّوراةُ والقرآنُ؛ قاله ابن عباس، و{تظاهرا}: معناه: تعاوناً. وقوله: {أهدى مِنْهُمَآ}. قال الثعلبي: يعني: أهدى من كتابِ محمدٍ وكتابِ موسى؛ انتهى. * ت *: ويحتملُ أنْ يكونَ الضميرُ في {يَكْفُرُوا} لقريشٍ كما أشار إليه الثعلبيُّ، وكذا في {قَالُوا} لقريشٍ عندَه. و{ساحران} يريدونَ موسى ومحمداً عليهما السلام وهو ظاهرُ قولِهم: {إِنَا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}؛ لأن اليهودَ لا يقولون ذلك في موسى في عصر نبينا محمد عليه السلام، ويُبيِّن هذَا كلَّه قولُه تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ...} الآية، فإنَّ ظاهرَ الآيةِ أنَّ المرادَ قريشٌ وعَلَى هذا كله مَرّ الثَّعْلَبيُّ، انتهى.
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول...} الآية؛ الذينَ وصَّلَ لَهُمُ القَوْلَ: همْ قريشٌ؛ قاله مجاهد وغيره، قال الجمهورُ: والمعنى: وَاصَلْنَا لهم في القرآن، وتابعناه موصولاً بعضُه ببعضٍ في المواعظ والزواجر، والدعاء، إلى الإسلام. وذهبت فرقةٌ إلى: أنَّ الإشارة بتوصيلِ القولِ إنما هي إلى الألفاظ، فالمعنى: ولقد وصَّلنا لهم قَوْلاً مُعْجِزاً دالاًّ على نُبُوءَتِكَ. قال * ع *: والمعنى الأولُ تقديره: ولقد وصلنا لهم قولاً يَتَضَمَّنُ معان؛ مَنْ تَدَبَّرَهَا اهْتَدَى. ثم ذكر تعالى القومَ الذينَ آمنوا بمحمدٍ مِنْ أهلِ الكتاب مُبَاهِياً بهم قريشاً. واختُلِفَ في تَعيينهم فقال الزهري: الإشَارَةُ: إلى النَّجَاشِيِّ. وقيل: إلى سلمان، وابن سلام، وأسند الطبريُّ إلى رفاعة القرظي، قال: نزلت هذه الآيةُ في اليهود في عَشْرَةٍ أَنَا أَحَدُهُمْ، أَسْلَمْنَا فَأُوذِينَا؛ فنزلت فينا هذه الآية. والضَّمِيرُ فِي {قبله} يعودُ على القرآن. و{أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} معناه: على مِلَّتَيْنِ؛ وهذا المعنى هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم " ثَلاَثَةٌ يُؤْتُونَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ؛ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمن بِنَبِيِّهِ وآمن بِيَّ... " الحديث. و{يَدْرَءُونَ} معناه: يَدْفَعُونَ؛ وهذا وصفٌ لمكَارِمِ الأخلاقَ، أي: يتغابون ومن قال لهم سوءًا لاَ يَنُوهُ وقَابَلُوهُ من القول الحسِن بما يَدْفَعُه، واللغْوُ سَقَطُ القولِ، والقولُ يَسْقُط لوجوهٍ يَعِزُّ حَصْرُها، والمرادُ منه في الآيةِ: ما كان سبّاً وأذًى ونحوَه؛ فأدبُ الإسلام الإعراضُ عنه. و{سَلاَمٌ} في هذا الموضِع قُصِدَ به المَتَارَكةُ لا التَّحِيَّةُ. قال الزَّجاج: وهذا قبلَ الأمر بالقِتَال، و{لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} معناه: لا نَطْلُبُهُمْ للجِدَالِ والمراجعة والمشاتمة. * ت *: قال ابن المباركِ في «رقائقه»: أخبرنا حبيبُ بنُ حجر القيسي، قال: كان يقال: ما أحْسَنَ الإِيمَانَ يَزِينُه العلمُ، وما أحْسَنَ العِلمَ يَزِينُه العَمَلُ، وما أَحْسَنَ العَمَلَ يَزِينُه الرِّفْقُ، وَما أضفت إلى شَيء، مِثْلَ حِلْمٍ إلى عِلْمٍ، انتهى. وأجْمَعَ جُلُّ المفسرينَ على أنَّ قولَه تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} إنما نَزَلَتْ في شَأْنِ أَبي طالب، فَرَوى أبو هريرةَ وغيرُه " أن النبي صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَيْ عَمٍّ، قُلْ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، كَلِمَةً أشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللّهِ... " الحديثُ قد ذَكَرناه في سورة: «براءَة»، فَماتَ أبو طالبٍ على كُفْرِه، فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ فيه. قالَ أبو روق: قوله تعالى: {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَاءُ} إشارة إلى العباسِ، والضميرُ في قوله {وَقَالوا} لقريش. قال ابن عباس: والمُتَكَلِّمُ بذلك فيهم الحارثُ بن نوفَلِ، وحكى الثعلبيُّ أنه قالَ له: إنا لنعلم أن الذي تقولُ حَقٌّ وَلَكِنْ إن اتبَعْنَاكَ تَخَطَّفَتْنَا العربُ. و{تُجْبى}: معناه: تُجْمَعُ وتُجْلَبُ. وقوله: {كُلِّ شَيْءٍ} يريد مما به صلاحُ حالهِم، ثم توعَّدَ قريشاً بقوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} و{بَطِرَتْ} معناه: سَفِهَت وأشِرَتْ وطَغَتْ؛ قاله ابن زيد وغيره. * ت *: قالَ الهروي: قولُه تعالى: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا}، أي: في مَعِيْشَتِهَا، والبَطَرُ: الطغيانُ عند النِّعمةِ، انتهى. ثم أحالَهُم على الاعتبارِ في خَرَابِ دِيار الأُمَمِ المُهْلَكَةِ كَحِجْرِ ثَمُودَ، وغيرِه. ثُمَّ خَاطبَ تعالَى قريشاً مُحقِّراً لما كانوا يَفتَخِرُونَ به من مالٍ وبنينَ، وأَنَّ ذلك متاعُ الدنْيَا الفانِي، وأنَّ الآخرةَ وَمَا فِيهَا من النَّعِيمِ الذي أعدَّهُ اللّهُ للمؤمِنِينَ خيْرٌ وأبقى. * ت *: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سقى كَافِراً مِنْهَا شَرْبَةً» رواه الترمذيُّ من طريق سهل بن سعد، قال: وفي البابِ عن أبي هريرة، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ صحيح، انتهى. وباقي الآيةِ بَيّنٌ لِمَنْ أبْصَرَ واهْتَدَى، جَعَلَنا اللّهُ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ.
{أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)} وقوله سبحانه: {أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ...} الآية، معناها، يعمُّ جميعَ العالِم و{مِنَ المحضرين}: معناه: في عذاب اللّه؛ قاله مجاهد وقتادة، ولفظة {محضرين} مشيرةٌ إلى سوق [بجبر]. وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} الضمير المتصل ب «ينادي» لِعَبَدَةِ الأوثَانِ، والإشَارَةُ إلى قريشٍ وكفارِ العرب. وقوله: {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} هؤلاء المجيبونَ هم كل مُغْوٍ دَاعٍ إلى الكُفْرِ من الشياطينِ والإنْسِ؛ طَمِعُوا في التَّبَرِّي من مُتَّبِعِيهم؛ فقالُوا رَبَّنَا هَؤلاءِ إنَّما أضْللناهم كَمَا ضَلّنا نحن باجتهادٍ لنَا ولَهُمُ، وأحبوا الكُفْرَ كما أَحبَبْناه {تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}. ثم أخبر تعالى: أنه يقال للكفرة العابدين للأصنام: {ادعوا شُرَكَاءكُمْ} يعني: الأصْنَامَ، {فَدَعَوْهُمْ}. فلَمْ يَكُنْ في الجمادات ما يجيبُ، ورأَى الكفارُ العذابَ. وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} ذهب الزجاج وغيرُه إلى أن جَوابَ «لو» محذوفٌ. تقديره «لمَا نَالَهُمْ العَذَابُ». وقالَتْ فرقةٌ: لو: متعلِقةٌ بِمَا قَبْلَهَا، تقديرهُ فَوَدُّوا حين رَأَوُا العذابَ لَو أَنَّهم كانوا يهتدون.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)} وقوله سبحانه {وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين} هذا النداءُ أيضاً للكفَّارِ، و{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء}: معناه أَظْلَمَتْ عليهم جهاتُها. وقوله: {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءَلُونَ} معناه، في قول مجاهد: لاَ يَتَساءلون بالأرحامِ ويحتملُ أنْ يرِيدَ أنهم لا يتَساءلون عن الأبناء، ليقين جَميعهِم أنه لا حُجَّةَ لَهُمْ. وقوله سبحانه: {فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين}. قال كثير من العلماءِ: «عسى» من اللّه واجبة. قال * ع *: وهذا ظَنُّ حَسَنٌ باللّهِ تعالى يُشْبِهُ كَرَمَه وفَضْلَه سبحَانه، واللازِمُ مِنْ «عسى»: أنها تَرْجِيَة لاَ وَاجِبَة، وفي كتاب اللّه تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5]. * ت *: ومعنى الوجوبِ هنا: الوقوعُ. وقوله سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ}، قِيلَ: سَبَبُها، قولُ قريش: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]. ونحوُ ذلك من قولهم؛ فَرَدَّ اللّهُ عليهم بهذه الآيةِ، وجماعة المفسرين: أن «ما» نافيةٌ، أي: ليس لهم الخِيرَةُ، وذهبَ الطبريُّ إلى أن {ما} مفعولة ب {يَخْتَار} أي: ويختارُ الذي لَهُمْ فيه الخِيَرةُ، وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " مِن سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللّهَ، وَمِنْ شَقَاوَتِهِ تَرْكُهُ " رواه الحاكم في «المستدرك»؛ وقالَ: صحيحُ الإسنادِ، انتهى من «السلاح». وباقي الآية بَيِّنٌ. والسَّرْمَدُ مِنَ الأَشْيَاءِ: الدَّائِمُ الذي لا ينقطعُ.
{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)} * ت *: وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ...} الآيةُ معناها بيِّنٌ، وينبغي للعَاقِل أَلاَّ يجعلَ ليلَهُ كُلَّهُ نَوْماً؛ فَيَكونَ ضَائِعَ العُمْرِ جِيفَةً بالليلِ بطَّالاً بالنَّهَارِ، كما قيل: [الطويل] نَهَارُكَ بَطَّالٌ وَلَيْلُكَ نَائِم *** كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ البَهَائِمُ فإنْ أرَدْتَ أَيُّهَا الأخ؛ أن تكونَ من الأَبرَارِ فعليكَ بالقيامِ في الأَسْحَارِ، وقد نقل صاحبُ «الكوكب الدري» عن البزار؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أَتَدْرُونَ مَا قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ: يَا بُنَيَّ، لاَ تُكْثِرِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ؛ فَإنَّ كَثْرَةَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ، يَدَعُ الرَّجُلُ فَقِيراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ "، انتهى. وابتغاء الفضل: هو بالمَشي والتصرُّفِ. وقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيداً} أي: عُدُوْلَ الأممِ وأخيارَهَا، فيشهدوْنَ على الأمم بخيرِها وشرِّها، فيحقُّ العذابُ عَلى مَنْ شُهِدَ عليه بالكُفْرِ، وقيل له: على جهة الإعذار في المحاورة: {هَاتُواْ برهانكم} ومن هذه الآيةِ، انْتُزِعَ قولُ القاضِي عند إرادة الحكم: أَبَقِيَتْ لك حجة.
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)} وقوله تعالى: {إِنَّ قارون كَانَ مِن قَوْمِ موسى فبغى عَلَيْهِمْ...} الآية، كان قارونُ مِنْ قرابةِ مُوسى: ممن آمن بموسى وحَفظَ التوراةَ وكَانَ عند مُوْسَى عليه السلام مِنْ عُبَّادِ الْمُؤمِنين، ثم إنَّ اللّه أضَلَّهُ وبَغَى عَلى قَوْمِهِ بأَنْوَاعِ البَغْيِ؛ مِنْ ذلكَ كُفْرُهُ بموسَى. وقال الثَّعْلَبِيُّ: قال ابن المسيب: كانَ قارونُ عامِلاً لِفِرْعونَ عَلى بني إسرائيل؛ ممنْ يبغي عليهم ويظلُمهم. قال قتادةُ: بَغَى عليهم بِكَثْرَةِ مالِهِ وولدِه، انتهى. * ت *: وما ذَكَرَهُ ابنُ المسيب، هو الذي يَصِحُّ في النظر لمتُأَمِّلِ الآيةِ، ولَوْلاَ الإطَالَةُ لَبَيَّنْتُ وَجْهَ ذَلِكَ، والمَفاتِحُ ظاهِرُها: أنها التي يُفْتَحُ بِها، ويحتمل أنْ يُرِيدَ بها: الخزائنَ والأوعيةَ الكبارَ؛ قاله الضحاك؛ لأنَّ المِفْتَحُ في كلام العرب الخِزَانَةُ، وأمَّا قَوله: {لَتَنُوءُ} فمعناه: تَنْهَضُ بتحامل واشتدادِ، قال كثير من المفسرين: إنَّ المرادَ: أن العُصْبةَ تَنُوءُ بالمفَاتِح المُثْقِلةِ لها فَقُلِبَ. * قلت *: وقال: عريب الأندلسي في كتاب «الأَنواء» له نَوْءُ كذا؛ معناه: مُثلُه ومنه: {لتنوأُ بالعصبة}، انتهى، وهو حَسَنٌ إنْ سَاعَدَهُ النَّقْلُ. وقالَ الدَّاوُودِيُّ عن ابن عباسٍ: {لتنوأُ بالعصبة أولى القوة} يقولُ تَثْقُلُ؛ وكذا قال الواحديُّ، انتهى. واخْتُلِفَ في العصبة: كمْ هُمْ؟ فقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ- رضي اللّه عنه-: ثَلاثَةُ، وقال قتادةُ: هم من العشرة إلى الأربعين، قال البخاريُّ: يقال: الفَرِحينَ المَرِحينَ. قال الغَزَالِيُّ: في «الإحْيَاءِ»: الفَرَحُ بالدنيا والتَّنَعُّمُ بِهَا سُمٌّ قَاتِلٌ يَسْرِي في العُرُوقِ؛ فَيُخْرِجُ مِن القَلْبِ الخوفَ والحَزَنَ وذِكْرَ الموتِ وأهوالَ القيامة؛ وهذا هو موتُ القلبِ والعياذُ باللّهِ، فأولوا الحَزْم من أربابِ القلوبِ جَرَّبُوا قلوبَهم في حال الفَرَحِ بمُوَاتَاةِ الدنيا، وعلموا أن النَّجَاةَ في الحُزْنِ الدائم، والتباعُدِ من أسبابِ الفَرَح، والبَطَرِ؛ فقَطَّعُوا النَّفْسَ عن ملاذِّها وعَوَّدُوها الصَّبْرَ عَنْ شَهَوَاتِها؛ حَلالِها وحَرَامِهَا وعلموا أن حلالَها حِسَابٌ وهُوَ نَوْعُ عذابٍ، وَمَنْ نُوقِشَ الحساب عُذِّبَ، فَخَلَّصُوا أَنْفُسَهُمْ من عَذابِهَا، وَتَوَصَّلُوا إلى الحرّية والملكِ في الدنيا والآخرة؛ بالخلاص من أسْرِ الشهواتِ وَرقِّها، والأنْسِ بِذِكْرِ اللّهِ تعَالَى والاشْتِغَالِ بِطَاعَتِه، انتهى. قال ابن الحاجِّ في «المَدْخَلِ»: قال يَمَنُ بن رزق رحمه اللّه تعالى: وأنا أُوصيكَ بأن تُطِيلَ النظرَ في مِرْآةِ الفِكْرَةِ مَعَ كثرةِ الخَلَوَاتِ، حَتَّى يُرِيَكَ شَيْنَ المَعْصِيَةِ وَقُبْحِهَا، فَيَدْعُوكَ ذَلِكَ النَّظَرُ إلى تَركها، ثم قال يمن بن رزق: ولاَ تَفْرَحَنَّ بِكَثْرَةِ العَمل مع قلةِ الحزْنِ، واغْتَنِمْ قليلَ العَمَلِ مَعَ الحزنِ، فإن قليلَ حُزْنِ الآخرةِ الدَّائِمِ فِي القلبِ؛ يَنْفِي كُلَّ سُرُورِ ألفْتَهُ من سرورِ الدنيا، وقليلَ سرورِ الدنيا في القلبِ؛ يَنْفِي عنكَ جميعَ حُزن الآخِرَة. والحزنُ لا يصلُ إلى القلبِ إلاَّ مع تَيَقُّظِهِ؛ وَتَيَقُّظُهُ حَيَاتهُ، وسرورُ الدُّنيا لِغَيْرِ الآخرةِ لا يصلُ إلى القلب إلا مع غَفْلَتِه؛ وغفلةُ القَلْبِ مَوتُه، وعلامةُ ثَبَاتِ اليقِينِ في القَلْبِ اسْتِدَامَةِ الحُزْن فِيهِ. وقال رحمه اللّه: اعْلَمْ أني لم أجدْ شَيئاً أبلَغَ في الزُّهد في الدنيا من ثباتِ حزْن الآخرة في القلب، وعلامَةُ ثباتِ حُزْنِ الآخِرةِ في القلبِ أَنْسُ العبدِ بالوَحْدَةِ، انتهى. وقولهم له: {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا}. قال ابن عباس والجمهور: معناه: لا تُضَيِّعْ عُمْرَكَ في أَلاَّ تعمل عملاً صالحاً في دنياك؛ إذ الآخرةُ يُعْمَلُ لَهَا في الدنيا، فنصيبُ الإنسانِ عمرُه وعملَه الصالحُ فيها؛ فينبغي أن لا يُهْمِلَه. وحكى الثعلبيّ أنه قيل: أرادوا بنصيبه الكفَنَ. قال: * ع *: وهذا كلُّه وعْظٌ متَّصِلٌ؛ ونحو هذا قولُ الشاعر: [الطويل] نَصِيبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّه *** رِدَاءَانِ تلوى فِيهِمَا وَحَنُوطِ وقال ابن العربي في «أحكامه»: وفي معنى النصيبِ ثلاثة أقوال: الأولُ: لا تَنْس حظَّكَ من الدنيا، أي: لا تَغْفَلْ أنْ تَعْمَلَ في الدنيا للآخرة، الثاني: أمْسِك مَا يَبْلُغَكَ؛ فذلك حظُّ الدنيا، وأنْفِقِ الفَضْلَ فذلكَ حظُّ الآخرة، الثالث: لاَ تَغْفَلْ عَنْ شُكْرِ مَا أَنْعَمَ اللّهُ بِهِ عَلَيْكَ، انتهى. وقولهُم: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} أمرٌ بِصِلةِ المساكينِ وذَوِي الحاجَاتِ. * ص *: {كَمَا أَحْسَنَ}:- الكاف للتشبيهِ أو للتعليل-، انتهى. وقول قارون: {قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا} قال الجمهور: ادَّعَى أنَّ عندَه علماً استوجَبَ به أن يكونَ صاحبَ ذلك المالِ، ثم اخْتَلَفُوا في ذلك العلم، فقال ابن المسيب: أراد علم الكيمياء. وقال أبو سليمان الداراني: أراد العلم بالتجارة ووجوهِ تثميرِ المال، وقيل غير هذا. وقوله تعالى: {وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون}. قال محمد بن كعب: هو كلامٌ متصِلٌ بمعنى ما قبلَه، والضميرُ في {ذُنُوبِهِمُ} عائدٌ على مَنْ أُهْلِكَ مِن القرون، أي: أهْلِكوا وَلَمْ يُسْئَلْ غَيرُهم بَعْدَهُمْ عَنْ ذنوبهم، أي: كل أحد إنما يُكَلَّمُ ويُعَاتَبُ بِحَسْبِ ما يَخْصُّه، وقالت فرقة: هو إخبار مستأنَفٌ عَنْ حالِ يومِ القيامةِ، وجَاءتْ آيات أُخَرُ تَقْتَضِي السؤالَ، فقالَ الناسُ في هذا: إنها مواطنُ وطوائفُ. وقِيل غيرُ هذا، ويوم القيامة هو مواطنُ. ثم أخبرَ تعالى عن خُروج قارونَ على قومهِ في زينتِه من الملابِسِ والمَراكِبِ وزينةِ الدنيا وأَكثَرَ النَّاسُ في تحديدِ زينةِ قارونَ وتَعْيِينِها بِمَا لاَ صِحَّةَ لَه؛ فَتَرَكْتُه، وبَاقِي الآيَةِ بَيِّنٌ فِي اغترارِ الجَهَلَةِ والإغْمَارِ مِن النَّاسِ.
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)} وقوله سبحانه: {وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم وَيْلَكُمْ...} الآية: أخبر تعَالَى عَنْ الذين أوتوا العلم والمعرفةَ باللّهِ وبِحَقِّ طاعتِه أَنَّهُمْ زَجَرُوا الأَغْمَارَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا حَالَ قَارُوْنَ وَحَمَلُوهُمْ عَلَى الطَّرِيقَةِ المُثْلَى؛ مِنْ أَنَّ النَّظَرَ والتَّمَنِّي إنَّما يَنْبَغِى أنْ يَكونَ في أمورِ الآخرةِ، وأنَّ حالةَ المؤمنِ العاملِ الذي ينتظرُ ثوابَ اللّهِ تعالى خيرٌ مِن حالِ كلِّ ذِي دُنيا. ثم أخبر تعالى عن هذه النَّزْعَةِ وهذه القوَّةِ في الخبر والدينِ أَنَّها {لاَ يُلَقَّاهَا} أي: لا يُمَكَّنُ فيها ويُخَوَّلُها إلا الصَّابِرُ عَلى طَاعَةِ اللّه وعن شهواتِ نفسه؛ وهذا هو جماع الخير كله. وقال الطبري: الضمير عائد على الكلمة؛ وهي قوله: {ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}، أي: لا يُلَقَّنُ هذه الكلمة إلا الصابرون؛ وعنهم تصدر، ورُوِيَ في الخسف بقارونَ ودارِه أن موسى عليه السلام لما أمَضَّه فعلُ قارونَ به وتعدّيه عليه؛ استجارَ باللّه تعالى وطلب النصرة؛ فأوحى اللّه إليه، أَني قد أمرتُ الأرض أَنْ تطيعكَ في قارونَ وأتباعه، فقال موسى: يا أرض؛ خذيهم فأخذتهم إلى الركب، فاستغاثوا: يا موسى؛ يا موسى؛ فقال: خذيهم، فأخذتهم شيئاً فشيئاً إلى أن تم الخسفُ بهم، فأوحى اللّه إليه: يا موسى؛ لَوْ بِيَ استغاثوا وإليَّ تابوا لرحمتِهُم. قال قتادةُ وغيره: رُوِيَ أَنه يخسفُ به كل يوم قامةً؛ فهو يتجلجل إلى يوم القيامة. * ت *: وفي الترمذي؛ عن معاذ بن أنس الجُهَنِيِّ، أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ تَرَكَ اللَّبَاسَ تَوَاضُعاً لِلَّهِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، دَعَاهُ اللّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ على رُؤُوسِ الخَلاَئِقِ؛ حتى يُخَيِّرَهُ؛ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا " وروى الترمذيُّ عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان لنا قِرَامُ سِتْرٍ فيه تماثيلُ على بابي فرآه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: " انْزَعِيهِ فَإنَّهُ يُذَكِّرُنِي الدُّنْيَا "، الحديثَ وروى الترمذي عن كعب ابن عياض قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: " إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي: المَالُ "؛ قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ وفيه عن عثمان بن عفان رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لَيْسَ لاِبْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سوى هذه الْخِصَالِ: بَيْتٍ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٍ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَحِلْفُ الْخَبَزِ والمَاءِ ". قال النضر بن شميلٍ: «جِلْفُ الخبز» يعني: ليس معه إدام. انتهى. فهذه الأحاديث وأشباهها تزهِّد في زينةِ الدنيا وغضارة عيشها الفاني. وقوله: {ويكأن} مذهبُ الخليلِ وسيبويه: أن «وي» حرف تنبيه منفصلة من (كأن)، لكنْ أُضيفت لكثرة الاستعمال. وقال أبو حاتم وجماعة: ويْكَ: هي (وَيْلَكَ) حذفتِ اللامُ منها لكثرةِ الاستعمال. وقالت فرقة: و«يكأن» بجملتها كلمة.
{تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)} وقوله تعالى: {تِلْكَ الدار الأخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً...} الآية: هذا إخبار مستأنف من اللّه تعالى لنبيه عليه السلام، يرادُ به جميعُ العالمِ، ويتضمنُ الحضَّ على السعيِ، حسبَ ما دلت عليه الآيةُ، ويتضمنُ الانحناءَ على حالِ قارونَ ونظرائه، والمعنى: أَنَّ الآخرةَ ليست في شيء من أمر قارون؛ وأشباهه؛ وإنما هي لمن صفتُه كذا وكذا، والعلو المذموم: هو بالظلم والتجبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وذلك أَن تريد أن يكون شراكُ نعلك أفضلَ من شراكِ نعلِ أخيك»، والفسادُ يعمُّ وجوهَ الشر.
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)} وقوله تعالى: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان} قالت فرقة: معناه فرض عليك أحكام القرآنِ. وقوله تعالى: {لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} قال الجمهور: معناه: لرادك إلى الآخرة، أي: باعِثُكَ بعد الموت، وقال ابن عباس وغيره: المعاد: الجنة، وقال ابن عباس؛ أيضاً ومجاهد: المعادُ: مكة، وفي البخاري بسنده عن ابن عباس: {لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ}: إلى مكة، انتهى. وهذه الآية نزلت بالْجُحْفَةِ؛ كما تقدَّم، والمعاد: الموضع الذي يعاد إليه. وقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} هو تعديد نعم، والظهيرُ: المعينُ. وقوله تعالى: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله}: بأقوالهم؛ ولا تَلْتَفِتْ نحوهم؛ وامضِ لِشَأْنِكَ، وادعُ إلى ربك، وآيات الموادَعَةِ كلُّها منسوخةٌ. وقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ وَجْهَهُ} قالت فرقة: المعنى: كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا هو سبحانه؛ قاله الطبري وجماعة منهم أبو المعالي رحمه اللّه وقال الزَّجَّاجُ: إلا إياهُ.
{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} قوله تعالى: {الم} تقدم الكلام على هذه الحروف. وقوله تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} نزلت هذه الآيةُ في قوم من المؤمنينَ بمكةَ؛ وكان كفار قريش يؤذونهم، ويعذبونهم على الإسلام، فكانت صدورهم تضيق لذلك؛ وربما استنكر بعضهم أن يُمَكِّنَ اللّهُ الكفرةَ من المؤمنين. قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآيةُ مسليةً، ومعلمةً أن هذه هي سيرة اللّه في عباده اختباراً للمؤمنين. ليعلم الصادقَ من الكاذِبَ، و«حِسبَ» بمعنى: ظَنَّ. {والذين مِن قَبْلِهِمْ} يريد بهم: المؤْمنين مع الأَنبياءِ في سالفِ الدَّهرِ.
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)} وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات} أم: معادلةٌ للهمزة؛ في قوله: {أَحَسِبَ} [العنكبوت: 2] وكأنه تعالى قرر الفريقين: قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يُفْتَنُوْنَ، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئاتِ؛ في تعذيب المؤمنين؛ وغير ذلك على ظنهم؛ أنهم يسبقون عقابَ اللّه تعالى؛ ويعجزونه، ثم الآيةُ بَعْدَ تَعُمّ كلّ عاصٍ، وعاملٍ سيئةٍ من المسلمين؛ وغيرهم، وفي الآية وعيد شديد للكفرة الفاتنين، وفي قوله تعالى: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء الله} تثبيت للمؤمنين، وباقي الآية بَيِّنٌ، واللّه الموفق. وقال * ص *: قول * ع *: أم: معادِلة للألْفِ في قوله: {أحَسِبَ} يقتضي أنها هنا متصلة؛ وليس كذلك؛ بل «أم» هنا: منقطعةٌ مقدرة ب «بل»؛ للإضراب، بمعنى: الانتقال؛ لا بمعنى الإبطال، وهمزة الاستفهام؛ للتقرير والتوبيخ؛ فلا تقتضي جواباً، انتهى. وقوله تعالى: {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم}. إخبار عن المؤْمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من الْبِدَارِ إلى اللّه تعالى؛ نوه بهم عز وجل وبحالهم؛ ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة؛ وهم الذين فتنهم الكفار. {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ}، أي: ثواب أحسن الذي كانوا يعملون.
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)} وقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جاهداك لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} رُوِيَ عن قتادةَ وغيره: أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص؛ وذلك أنه هاجر؛ فحلفت أمه أن لا تستظلَّ بظلٍّ حتى يرجع إليها؛ ويكْفُرَ بمحمدٍ، فلجَّ هو في هجرته، ونزلت الآية. وقيل: بل نزلت في عياش بن أبي ربيعة؛ وكانت قصته كهذه ثم خَدَعَهُ أبو جهل؛ ورده إلى أمه. الحديث في كتب السيرة، وباقي الآية بيِّن. ثم كرر تعالى التمثيلَ بحالة المؤْمنين العاملين؛ ليحركَ النفوس إلى نيل مراتبهم. قال الثعلبي: قوله تعالى: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين} أي: في زُمْرَتهم. وقال محمد بن جرير في مدخل الصالحين: وهو الجنة. وقيل: {فِي} بمعنى: «مع» و«الصالحون»: هم الأنبياء والأولياء، انتهى. وقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بالله} إلى قوله: {المنافقين}، نزلت في المتخلفين عن الهجرة؛ المتقدِّم ذكرهم؛ قاله ابن عباس. ثم قررهم تعالى على علمه بما في صدورهم، أي: لو كان يقينُهم تامّاً وإسلامُهم خالصاً؛ لما توقَّفُوا ساعة ولَرَكِبُوا كلَّ هول إلى هجرتهم ودار نبيهم. وقوله تعالى: {وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين ءَامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين} هنا؛ انتهى المدني من هذه السورة.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)} وقوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتبعوا سَبِيلَنَا...} الآية، رُوِيَ: أن قائلَ هذه المقالةِ هو: الوليد بن المغيرة، وقيل: بل كانت شائعة من كفار قريش؛ لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ} لأنه يلْحق كل داع إلى ضلالة؛ كفل منها حَسْبَمَا صَرَّحَ به الحديثُ المشهور.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ...} الآية، العطفُ بالفاءِ يقتضي ظاهرُه أنه لَبِثَ هذه المدةَ رسولاً؛ يدعو إلى عبادة اللّه تعالى، و{الطوفان}: العظيمُ الطامي، ويقال ذلك لكل طامٍ خَرَجَ عن العادة من ماء، أو نار، أو موت. وقوله: {وَهُمْ ظالمون} يريد: بالشرك. ثم ذكر تعالى قصةَ إبراهيم عليه السلام وقومِه، وذلك أيضاً تمثيل لقريش. وقوله تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} قال ابن عباس: هو نحت الأصنام. وقال مجاهد: هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان؛ وغير ذلك.
|